فصل: الفصل الحادي والستون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الستون:

إخواني، تفكروا في الذين رحلوا، أين نزلوا، وتذكروا أن القوم نوقشوا وسئلوا، واعلموا أنكم كما تعذلون، عذلوا ولقد ردوا بعد الفوات لو قبلوا.
لأبي العتاهية:
سألت الدار تخبرني ** عن الأحباب ما فعلوا

فقالت لي أناخ القوم ** أيامًا وقد رحلوا

فقلت فأين أطلبهم ** وأيّ منازلٍ نزلوا

فقالت بالقبور وقد ** لقوا والله ما فعلوا

أناسٌ غرّهم أملٌ ** فبادرهم به الأجل

فنوا وبقي على الأيام ** ما قالوا وما عملوا

وأثبت في صحائفهم ** قبيح الفعل والزلل

فلا يستعتبون ولا ** لهم ملجأ ولا حيل

ندامى في قبورهم ** وما يغني وقد حصلوا

أين من كانت الألسن تهذي بهم لتهذيبهم، وأصبحت فلك الاختبار تجري بهم لتجريبهم، أقامت قيامتهم منادي الرحيل لتغري بهم لتغرييهم، فباتوا في القبور وحدانا لا أنيس لغريبهم، أين أهل الوداد الصافي في التصافي، أين الفصيح الذي إن شاء أنشأ في القول الصافي، أين قصورهم التي تضمنتها مدايح الشعراء صار ذكر القوى في القوافي، لقد نادى الموت أهل العوالي والقصور العوالي الطوافي، تأهبوا لقدومي فكم غرثان طوى في طوافي، رحل ذو المال وما أوصى في تفريق كدر أو صافي، ولقي في مره أمرًا مرًا لا تبلغه أوصافي، ذاقوا طعام الآمال فانتزع من أفواههم يوم المآل، وعاد الخوى في الخوافي، عوى في ديارهم ذئب السقام، بتكذيب العوافي، انقطعت آمالهم، وصار كل المنى في دفع المنافي، تزلزل ود أحبابهم والتوى وبت ألتوي في التوافي، تالله لقد نال الدود والبلى، ما أرادا منهم وألفيا في الفيافي.
آلت قبورهم إلى الخراب أولا، فلا يدري أهذا قبر المولى أولا، وهم سواءٌ في السوافي، كم أعرضوا عن نصيحٍ وقد رفعوا ما تلافى التلافي، كم ندموا على ضياع زمانهم الذي خلا في خلافي، كم رأيت عاصيهم قد أعرض عني إلى عدوي والتجا في التجافي، أما أخبرتهم بوصف النار إنها {نزَّاعةٌ للشَّوى} في الشوافي، فاعتبر بحالهم فإنه يكف كف الهوى وهو الواعظ الكافي، أين الأبصار الحدائد قبل إحضار الشدائد، أما استلبت القلائد من ترائب الولائد، لا بد من إزعاج هذا الراقد، فيقع الفراق بين فريق الفراقد، يا موثقًا في حبالة الصائد، والله ما كذبك الرائد، يا عمي البصيرة ولا قائد، كم أضرب في حديد بارد.
أليلى وكلٌّ أصبح ابن ملوّح ** ولبنى وما فينا سوى ابن ذريح

ذهبت أعماركم في طلاب الشهوة والموت قد دنا، فما هذه السهوة والقلوب غافلة فإلام القسوة؟ والصلح معرض فختام الجفوة، أين رب المال ابن ذو الثروة؟، أما فرس الموت ذا الفرس؟ وأخلى الصهوة.
طوبى للمتيقظين إنهم لقدوة، علموا عيب الدنيا فما أمسكوا عروة، وأنت في حبها كقيس وعروة، أيحسن بعد الشيب لهو وصبوة، أأبقى نأي الزمان طيب ناي وقهوة؟ قربت نوق الرحيل، مساء وغدوة، جذبت أيدي المنون كرها وعنوة، يا قليل التدبير ولا عقول النسوة، إلى كم عيب وعتب، أما فيكم نخوة؟ واعجبًا لتاجر يرضى بتعب شهر ليتمتع بربحه سنة، فكيف لا يصبر أيام عمره القليلة ليلتذ بربحها أبدًا.
يا من يروح ويغدو في طلب الأرباح، ويحك اربح نفسك، يا أطفال الهوى طال مكثكم في مكتب التعليم، فهل فيكم من أنجب؟ أقروا أدلة التوحيد من ألواح أشباحكم، وتلقفوها من أنفاس أرواحكم، قبل أن يستلب الموت من أيدي اللاهين ألواح الصور، ويمحو سطور التركيب بكف البلى وما فهم المكتوب بعد، كم يلبث مصباح الحياة على نكباء النكبات، من رأى بعين فكره معاول النقض، في هذا المنزل ناح على السكان.
يا هذا مشكاة بدنك في مهاب قواصف الهلاك، وزجاجة نفسك في معرض الانكسار، فاغتنم زمان الصفو فأيام الوصل قصار، كم يلبث قنديل الحياة على عواصف الآفات، أنفاس الحي خطاه إلى اجله، درجات الفضائل كثيرة المراقي وفي الأقدام ضعف وفي الزمان قصر، فمتى تنال الغاية؟.
وقف قوم على راهب، فقالوا: إنا سائلوك أفمجيبنا أنت؟ قال: سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع، والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه ذو اجتهاد، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية.
إخواني، الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، الفرص تمر مر السحاب والتواني من أخلاق الخوالف، من استوطأ مركب العجز عثر به، تزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران. كان عمر وعائشة يسردان الصوم، وسرد أبو طلحة أربعين سنة، وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، وكان عامر بن عبد الله يصلي كل يوم ألف ركعة، وختم أبو بكر بن عياش في زاوية بيته ثماني عشر ألف ختمة، وكان لكهمش في كل شهر تسعون ختمة، وكان عمير بن هاني يسبح كل يوم مائة ألف تسبيحة:
صافحوا النجم على بعد المنال ** واستطابوا القيظ من برد الظلال

واستذلوا الوعر من أخطارها ** إنما الأخطار أثمان المعالي

كبوا الضرر إليها ربما ** صحت الأجسام يومًا بالهزال

جروا يومًا إلى غاياتها ** بالعوالي السمر والقب العوالي

وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وكان ابن أدهم كأنه سفود من العبادة، وكانت رابعة كأنها شن بال، ومات حسان بن أبي سنان فكان على المغتسل كالخيط، وكان محمد بن النضر لو كشط جميع لحمه لم يبلغ رطلًا:
جزى الله المسير إليه خيرًا ** وإن ترك المطايا كالمزاد

أكبر دليا على الحب نحول الجسم واصفرار اللون.
للحارثي:
سلبت عظامي كلها فتركتها ** مجردة تضحي لديك وتخضرّ

وأخليتها من مخها فكأنها ** أنابيب في أجوافها الريح تصفر

إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت ** مفاصلها من خوف ما تنتظر

خذي بيدي ثم ارفعي الثوب تنظري ** ضنى جسدي لكنني أتستر

وليس الذي يجري من العين ماؤها ** ولكنها روحٌ تذوب فتقطر

قال الجنيد: دخلت على سري السقطي فمد جلدة ذراعه وقد يبست على العظم، فما امتدت، فقال: والله لو شئت أن أقول هذا من محبته لقلت:
وهواك ما أبقى هواك ** على فيك ولا ترك

أيلومني فيك الذي ** يزري علي ولم يرك

رفقًا بعبدك سيدي ** هذا عبيدك قد هلك

.الفصل الحادي والستون:

يا من أيامه تعظه، حين تبنيه وتنقضه، يا من صحته تمرضه، وسلامته تحرضه، يقرض عمره فيفنى ومن يقرضه:
أرى الدهر أغنى خطبه عن خطابه ** بوعظ شفى البابنا بلبابه

له قلب تهدى القلوب صواديا ** إليها وتعمى عن وشيك انقلابه

هو الليث إلا أنه وهو خادر ** سطا فأغاب الليث عن أنس غابه

وهيهات لم تسلم حلاوة شهده ** لصاب إليه من مرارة صابه

مبيد مباديه تغر وإنما ** عواقبه مختومة بعقابه

ألم تر من ساس الممالك قادرًا ** وسارت ملوك الأرض تحت ركابه

ودانت له الدنيا وكادت تحله ** على شهبها لولا خمود شهابه

لقد أسلمته حصنه وحصونه ** غداة غدا عن كسبه باكتسابه

فلا فضة أنجته عند انفضاضه ** ولا ذهب أغناه عند ذهابه

سلا شخصه وراثه بتراثه ** وأفرده أترابه بترابه

كم دارس عليك إن الرابع دارس، كم واعظ ناطق وآخر هامس، كم غمست حبيبًا في الثرى كف رامس، كم طمس وجهًا صبيحًا من البلى طامس، تالله ما نجا بطبه بقراط ولا أرسطا طالس، صاح الموت بالقوم فنكس الفارس، أين الفطن اللبيب أين اليقظ القائس؟ أتشتري أخس الخسائس يا نفس النفائس؟ أتؤثر لذة لحظة تجني حرب البسوس وداحس؟ يا مقترين من التقى، اشتروا نفوسكم عن الذنوب تشتروا لها السنادس، أخواني، لو ذكرتم أنكم تبادون ما كنتم بالمعاصي تبادون، لقد صوت فيكم الحادون وما كأنكم للخير ترادون، واعجبًا تصادون المواعظ ولا تصادون، إلى متى تراوحون الذنوب وتغادون؟ يا مقيمين وهم حقًا غادون، أتعادون من يقول إنكم تعادون؟ كأنكم بكم تقادون إلى مقام فيه تقادون، أما سمعتم كيف نادى المنادون؟ كل شيء دون المنى دون.
يا نائم الليل تنبه للتقى ** وانهض فقد طال بك القعود

بين يديك حادث لمثله ** يغسل عن أجفانه الرقود

ما جحد الصامت من نشأه ** ومن ذوي النطق أتى الجحود

الدهر خطيب كاف، والفكر طبيب شاف، كم قطع زرع قبل التمام فما ظن المستحصد، من عرف الستين أنكر نفسه، من بلغ السبعين اختلفت إليه رسل المنية، عواري الزمان في ضمان الارتجاع، يوسف العقل ينظر في العواقب، وزليخا الهوى تتلمح العاجل، يا مقدمين على الحرام أنتم بعين من حرم، ينبغي لمن أُلبس ثوب العافية أن لا يدنسه بوسخ الزلل، زرع النعم مفتقر إلى دوران دولاب الشكر، فإذا فتح القلب سكر الاعتراف بالعجز صار السقي سبحًا.
هذا اليوم يقول: ارضني وعلى رضا أمس، السكون بالبلادة أصعب من التحريك بالهوى، إذا رآك عقلك، وقد تولى حسُّك تدبيرك تولى، ويحك لا تأمن حسك على عقلك فإنه عكس الحكمة، العقل نور والحس ظلمة، الحس أعشى والعقل عين الهدهد، الحس طفل والعقل بالغ، العقل يدخل في المضائق والحس أبله، الحس لا يرى إلا الحاضر والعقل يتلمح الآخر، الصبر عن الأغراض صبر غير أن الحازم يجعل مراقبة العواقب تقوية، ما خلا قط وجه سرور من تعبس مكروه، ولا سلمت كأس لذة، من شائبة نغصة: للمتنبي:
فذي الدار أخونُ من مومس ** وأخدعُ من كِفةِ الحابل

تفانى الرجال على حبّها ** وما يحصلون على طائل

كل صاف من الدنيا، مقرون بكدر، حتى أنه في الغيث عيث، أتريد أن لا ينعكس لك غرض؟ فما هذا موضعه، الهبات ذاهبات، والليل مناهبات، الدنيا قنطرة واستيطان القناطير بله.
هل نجد إلا منزل مفارق ** ووطن في غيره يقضي الوطر

الهم فيها أكثر من الفرح، والسرور أقل من الحزن {وإنَّ الدار الآخرة لهي الحَيَوان} يا مجتهدًا في طلب الدنيا، اجعل عشر اجتهادك للأخرى، جهزت البنات وتزوجت البنين، فأنت بماذا تجهزت للرحيل؟ يا متقاعدًا عن أوامر الرب، احذر أن يقعدك عن نهضاتك تزمن، واعجبًا إن حركت إلى الطاعة، فزحل وإن لاح لك الهوى فعطارد عينك قد استرقها المنظور، ولسانك يتصرف فيه اللغو، ويدك يحركها الزلل، وخطا أقدامك إلى الخطأ، ثم قد أسكنت الهوى قلبك، فأين يكون الملك؟ وهل ترك لنا عقيل من منزل.
ويحك إن الإنسان يشد في إصبعه خيطًا يتذكر به حاجته، وهل في جسدك عرق أو شعرة إلا وهي تذكر بالخالق، فما وجه هذا النسيان البارد، يا من باعنا نفسه ثم ماطل بالتسليم، لا أنت ممن يفسخ العقد ولا ممن يمضي البيع، تدعي الرحلة إلى دار الحبيب، ودهليز سرادقك إلى بلد الهوى، هيهات لا يدرك علم الربانية إلا من ربى فيه.
للمهيار:
يا قلب ما أنت وأهلَ الحمى ** وإنما هم أمسُكَ الذاهبُ

دون نجدٍ وظباءِ الحمى ** أن يُقرح المنسِمُ والغاربُ

لا بد في سلوك الطريق من مصابرة رفيق، البلاء له خلق صعب فاصبر على مداراته، البلايا ضيوف فأحسن قراها لترحل عنك إلى بلد الجزاء مادحة لا قادحة، من حك بأظفار شكواه جلد عيشه أدمى دينه، البلاء ظلمة غبش ويا سرعة طلوع الفجر، اللهم أعن أطفال التوبة على ما ابتلوا به من جوع شديد، فإذا أعد قرص الإفطار نزل ضيف {ويُؤثرون} فزاحم، فأراح {أحَسِبَ الناس أن يُتركوا}.
إن هواك الذي بقلبي ** صيرني سامعًا مطيعا

أخذت قلبي وغمض عيني ** سلبتني النوم والهجوعا

فذر فؤادي وخذ رقادي ** فقال لا بل هما جميعا

فإذا تمكنت قدم المريد وطاب له ارتضاع ثدي الوصال قطع عنه في أهنأ ما كان يراد منه زيادة القلق، في الحديث يوحي الله تعالى إلى جبريل عليه السلام اسلب عبدي حلاوة مناجاتي فإن تضرع إليّ فردها، فلو سمعت استغاثة المحبين، لأورثتك القلق:
على بعدك لا يصبر ** من عادته القرب

ولا يقوى على حجبك ** من تيمه الحب

فمهلًا أيها الساقي ** فقد يشهدك القلب

فإن لم تترك العين ** فقد يشهدك القلب